هوية الأديب المسلم في عالمنا المتغير !
د. أحمد عطية السّعودي
يشهد عالمُنا المعاصر ثورة كُبرى في تفجّر المعرفة العلمية، وتتابع "الصّرعات" على المستويات كافة، وتسارع الأحداث، وتغيّر القيم والمفاهيم الفكرية بين عشية وضحاها، حتى غدا الإنسان المسلم في هذا العصر مأخوذاً بما يرى من تقنية ومدنية ملأتْ سمعَه وبصرَه، وشغلته عن خاصةِ نفسه، فاسترخى في أحضانها تلذذاً وهُياماً، فضيّع هُويّته، وأضحى بين الأنام أضيعَ من الأيتام على مائدة اللئام، لَم يَنَلْ شِبْعاً لبطنه، ولم يُنرْ شمعة لعقله، أو كماقال الشاعر:
كالعيسِ في البيداءِ يقتُلها الظمأ
والماهُ فوقَ ظهورها محمولُ!
وهُوية الأديب المسلم هي الأساس الذي يُبرز له معالم الدرب في هذا العالَم المتغير، ويشكل شخصيته تشكيلاً متميّزاً كما تشكلّ النحلةُ أقراصها وخلاياها، وتسكبُ فيها الشَّهدَ المُصفّى الذي ينتفعُ به الناس غذاءً ودواء.
وإذا كان الأدباء ينهلون من مشارب متعددة، ويسلكون في التعبير عن أفكارهم كُلَّ مذهب فإن الأديب المسلم ينهل من معين الحق: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" {النحل: 102}.
ومنهج الحق هو الذي يمنح الأديب المسلم ذاته المتميّزة، ويجعله كوكباً دُرياً في سماء الأدب الأصيل يهدي الحائرين الذين تقطّعت بهم أسباب الكلمة الطيبة، والحكمة البالغة، ويُدْنيه من منازل الشهداء والصدّيقين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً!
إن هُوية الأديب المسلم هُويّة أدبية إسلامية لا شرقية ولا غربية تكاد حروفها تضيء لروعة جمالها الباهر، وإشراقها الساحر، وإحكام مبناها، وجودة معناها. وهي تحملُ علامات بارزة وأمارات فارقة:
أولاً - صفاته القرآنية:
حدد القرآن الكريم علائم الشخصية الأدبية الجاهلية قبل حديثه عن الشخصية الأدبية المسلمة لتكون ظاهرة للعيان فينأى الأديب المسلم عنها، ويتصدى لها وليميزَ الخبيث من الطيّب، وذلك في عدد من الآي الحكيم في سورة الشعراء، فعلائم الأديب الجاهليّ هي:
أ ) الغواية والسّفاهة: "والشعراء يتبعهم الغاوون" {الشعراء: 224}.
ب) التيه والضّياع: "ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" {الشعراء: 225}.
ج ) مخالفة القول للفعل: "وأنهم يقولون ما لا يفعلون" {الشعراء: 226}.
وقد ذكر المفسرون نماذج لهؤلاء الشعراء الضالين المُضلين في العهد النبويّ منهم: هبيرة المخزومي، ومُسافع ابن عبد مناف، وأبو عزّة الجهمي، وأمية بن أبي الصّلت(1).
وأما الأديب المسلم فقد ميّزه القرآن الكريم بأربع صفاتٍ جليلة تفرقُه عن الأديب الجاهليّ في كل زمان ومكان، وتصوغ شخصيته على مثال خاص ليؤدي مهمة خاصة لا يضطلع بها كلُّ فردٍ من الأفراد، فتجعله يحسّ بالحياة إحساساً عميقاً، ويترجم عنها للأحياء(2).
وهذه الصفات الأربع الجليلة هي التي تضمنها قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" {الشعراء: 227}.
ويمكن إفرادها بالنقاط الآتية(3):
أ ) الإيمان الصادق: وهو يقين في فكر الأديب المسلم وتصوّره وشعوره، ينطلق منه في جميع عطائه، ويمثل في أدبه خطاً مستمراً ونهجاً ممتداً لا ينقطع بتفلّت ولا ينحرف ولا يتناقض. والإيمان يُنمّي موهبته على أطهر ريّ، وأنقى هواء، وأصغى غذاء.
ب) العمل الصالح: وهو مرتبط بالإيمان: يكتب ويصدق، ويقول ويفعل، وبدون هذا الارتباط تهتز شخصيته وأدبه، وقد ينهار جهده، ويسقط في حمأة النفاق، أو ضياع الانحراف.
ج) الذكر الكثير: والذكر غذاء كريم يرعى الفكر والعاطفة والموهبة، ولا غنى عنه للأديب المسلم حتى يستقيم له الأدب، وتصفو به الفطرة، ويتحقق به السداد في القول والعمل.
د ) الانتصار بعد الظلم: وهي ثمرة للصفات الثلاث تومئ إلى عزة الأديب المسلم، وممارسة حقه في حفظ شرفه، ورفع الظلم عن نفسه وأمته، وإباء الضيم والذُّل ليظلّ هذا الأديب شعلة العزة في الأمة، وصرخة الحق، وحُداء الجنة.
وقد مثّل هذا الصنف من أدباء الإسلام في العهد النبويّ: حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، وكعب بن مالك، وغيرهم كثير(4).
ثانياً: لغته العربية:
وهي لغة الذكر الحكيم، والهدي الشريف، قد وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، فحظيت بالتشريف والتقديس نزل به الروح الأمين 193 على" قلبك لتكون من المنذرين" 194 بلسان عربي مبين {الشعراء: 193-195}.
وهي ملك للمسلمين أجمعين، وليس للعرب وحدهم، واللغة العالمية الأولى للأديب المسلم مهما تباعدت الأقطار وتباينت الأعراق، والأولى أن تسمّى "اللغة الإسلامية" حتى يشعر المسلمون أنها لغتهم الأولى(5). ويتجلّى تميّز الأديب المسلم بهذه اللغة الإسلامية على هذا النحو:
أ ) إجادة العربية إجادة تامة في ميدان الكتابة والإبداع.
ب) التحدث بالعربية الفصحى مع مراعاة التأني في الكلام، والاقتصاد في الحديث، والبعد عن التشدّق: روى عبدالله بن عمرو أن رسول الله { قال: "إن الله يُبغض البليغ من الرجال الذي يتخلّل بلسانِهِ كما تتخلّل البقرة" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب).
ج) السعي إلى نشر العربية على المستوى العالميّ.
ثالثاً: أهدافه السامية:
ليس الأديب المسلم شخصاً عادياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك، لأن الشخص العادي تكون أهدافه متواضعة، وطموحاته محدودة بحدود الأفكار التي يتبناها، ولكنه المربي الواعي، والمصلح الاجتماعي، ولسان الأمة المُعبّر، وترجمانها الصادق، تقع على كاهله مسؤولية كبرى في كل ما يتحرى كتابته وقوله(6).
وهو يرنو إلى تحقيق أهدافٍ سامية منطلقاً من التصور الإسلامي الصحيح في فهم رسالته في الحياة الدنيا دار العمل والابتلاء، ومن هذه الأهداف الكبرى الثابتة(7):
أ ) تحقيق مرضاة الله، والفوز برحمته وجنته، والنجاة من سخطه ونار الجحيم.
ب) بناء نفسه، وإعدادها إعداداً أدبياً إسلامياً مستمراً حتى يأتيه اليقين.
ج) بناء جيل مؤمن بالقدوة الحسنة، والكلمة الطيبة، والتربية الراشدة.
د ) رعاية لغة القرآن تعلماً وتعليماً وإبداعاً.
ه) نشر الأدب الإسلامي في ربوع العالم لتكون كلمة الله هي العليا.
رابعاً: بصيرته ووعيه:
تزخر الساحة العربية والعالمية بألوان من الأدب الرخيص أو الأسود والأفكار المنحرفة، والأقلام المسمومة، مما يتطلب من الأديب المسلم مزيداً من الوعي والرصد والتقويم وذلك من خلال الخطوط الآتية:
أ ) إدراك أبعاد المؤامرة البشعة على اللغة العربية وأدبها الأصيل، تلك التي تهدف إلى إحلال العامية محل الفصحى، وتجريد العربية من قواعدها، ومهاجمة البلاغة العربية والنيل من علمائها والافتراء عليهم(
.
ب) مواجهة تيار التغريب والحداثة: وهو تيار له أنصاره الكثيرون في الساحة العربية يدعو إلى: الارتماء في أحضان الغرب، وتبني الأفكار المستوردة في الفكر والأدب، والتنكر للماضي والثورة على كل قيم قديم، والاستهزاء بالله سبحانه وبالرسول {، وبالصحابة الكرام وأهل الدين والصلاح(9).
ج) التبصر بالأدباء ذوي الأقلام المسمومة الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة، وأسماؤهم لامعة يفخر بها المخدوعون، يقول الأستاذ أنور الجندي: "إنه ليس منْ مصلحة أي أمة أن تفخر ببطولات زائفة، أو تحتضن أسماء لامعة، لم يكن لمعانُها في الحقيقة قائماً على مجدٍ أصيل، وإنما كان من عمل خصوم هذه الأمة لإعطاء هؤلاء مكانة غير صحيحة، وثقة كاذبة في نفوس الناس فتخدعهم عما يقدمون من سموم"(10).
وقد صدرت هذه الأقلام المسمومة عن أدباء الغرب المتأثرين بالفلسفة الإلحادية لمفكريهم كفلسفة (نيتشة) التي يدعو فيها إلى الإلحاد، ويعلن وفاة الإله وغيابه عن الكون، ويدعو إلى سيادة الإله الجديد وهو الإنسان الراقي(11)! وإنها لفلسفة مرعبة جائرة!
خامساً: ثقافته وزاده:
ينطلق الأديب في تحصيله الثقافي من الكلمة الإلهية "اقرأ" التي ترددت أصداؤها في جَنَباتِ مكة، وهبّ لها السلف الصالح يحملونها نوراً وخيراً عميماً ومفتاحاً للحضارة حتى كانت حصيلتهم من الكتب أعلى حصيلة عرفتها البشرية في التاريخ، وكانت فهارس مخطوطاتهم تضم عشرات الآلاف من العناوين التي عصفتْ بكثير منها غزوات الهمج الذين لا يقرأون(12).
حدد د. نجيب الكيلاني أربعة مؤهلات للأديب المعاصر الذي يبتغي تقديم عمل أدبيّ أصيل، وهي:
أ ) امتلاك ناصية اللغة: وذلك بتعلم العربية والاطلاع على قواعدها وأسرارها ودلالات ألفاظها.
ب) الثقافة العميقة الشاملة: وهي التي تمكّن من الرؤية السليمة، والحكم الصادق، لأن الانغلاق والتقوقع في حيز ضيق يحجب عنه كثيراً من الحقائق، ويؤدي إلى قصور الفكر وغرابته.
ج) التجارب الأدبية المتنوعة لكبار كُتّاب العصر: وهي مدرسة حقيقية يتعلم من خلالها الكثير من أساليب العرض، وإبراز الآراء، وطريقة الإقناع وروعة التأثير.
د ) المنطلق الفكريّ: ليس الأدب مجرد كلمات جميلة، أو عبارات عذبة، أو تراكيب إنشائية تبهر النظر وتهز السمع، وإنما هو إثارة العقل وإقناعه، وتحريك الوجدان وإشعاله، وتحريض على القيم السلوكية الإيجابية، فهو أدب يرتبط بأهداف عليا وغايات نبيلة(13).
والثقافة اللازمة للأديب هي الثقافة الأدبية الإسلامية العلمية الجامعة التي يستمدها من مصادر كثيرة كالتجارب الشخصية، ومواقف الحياة اليومية، والالتقاء بالأساتذة والأدباء، وما يفيده من المناهل العلميّة كالجامعات ومراكز البحوث.
ا