بداية نشير إلي انصراف البحث النقدي إلي تعريف الضرب الأدبي الفني أو الصنف الأدبي بكونه ( أحد القوالب التي تصف فيها الآثار الأدبية ، فالمسرحية لا جنس أدبي مث، وكذا القصة وهكذا ، بحيث يتميز كل صنف أدبي تميزا واضحا عن غيره من الأجناس الأدبية ) ، لكن الاتجاه النقدي الحديث يؤسس لمفهوم تداخل الأنواع الأدبية ، بحيث يتم نفي التمسك بأسس التفرقة الشكلية ، ويصبح الأهم التمييز بين أغراض الأدب في أجناسه المختلفة ، بمعني أن الرؤية النقدية لا تري في تصنيف الأنواع الأدبية وظيفة ضرورية عند التحليل والتقييم ، إنما يتم اتخاذ هذا التصنيف كوسيلة مساعدة ( وصفية مفيدة ولكنها ليست تحكمية كما كان الحال في الماضي ) ، بحيث ظهرت أعمال أدبية تقتني أشكال مبتكرة في الأداء الأدبي بحيث يصعب تصنيفها تحت لواء واحدا من الأنواع الأدبية التقليدية ، هذا رغم ما تؤديه في ذاتها من غرض أدبي في المتعة والمنفعة معا ، وليس هدف المقال دراسة تلك الرؤي الجديدة ( فتلك لها بحثها الخاص ) بقدر الاكتفاء بالتلميح إليها بما يفيد في تفسير وإلقاء الضوء علي مناطق الاقتراب بين القصة القصيرة والرواية بأنواعها ، فنسير بداية إلي أن كثير من الكتابات منذ عشرات السنين أشارت باستفاضة إلي شرح خصائص الأنواع الأدبية المختلفة خاصة القصة القصيرة ، والتعرض لتلك الأفكار الهامة رافدا يصب في ناحية هدفنا من تقديم تلك الورقة كما يلي :الفروق التقليدية بين القصة القصيرة والرواية
--------------------------------------------------------------------------------
لا شك أن الرواية والقصة القصيرة تنتميان إلي مجموعة الفنون القولية الدرامية والتي أساسها اللغة النثرية ، والتي تقوم علي أحداث وقعت أو يمكن أن تقع ، والقصة بصفة عامة تستخدم آلية السرد والحوار معا في تحقيق المتعة الفنية للمتلقي ومن خلال الأداء القصصي بدرامية الأحداث وعقدتها وحبكتها القصصية ، هذا بصفة عامة ، أما من حيث الخصائص الأساسية للقصة القصيرة والتي تشكل فواصل بين النوعين فتتمثل في الخصائص الثلاث الشهيرة والمتداخلة والمترابطة معا ، بحيث تشمل إحداث وحدة التأثير أوالانطباع لدي المتلقي من خلال التركيز علي حدث واحد أو أزمة واحدة من خلال بناء قصصي محكم ، كما أشار تعريف قاموس المصطلحات الأدبية عام 1964م عند الحديث عن لحظة التنوير : " وفي معظم الأحيان نجد أن كاتب القصة القصيرة في القرن التاسع عشر أو في القرن العشرين يركز اهتمامه نحو حدث واحد ، أو شخصية واحدة في حدث واحد ، وبدلا من أن يصور لنا تطور هذه الشخصية فهو يوضح أمرها في لحظة معينة " ، وغالبا ما تكون لحظة التنوير التي تمر بها الشخصية القصصية تعبر عن التغيير الحاسم والفاصل في لحظة تمر بها الشخصية .
ويري أحد النقاد ( أن الرواية أيضا تعرض الحياة في شمولها أما القصة القصيرة فهي نقطة يتلاقي فيها الحاضر والماضي والمستقبل ، فالرواية تصوير من المنبع إلي المصب ، أما القصة القصيرة فتصوير دوامة واحدة فقط علي سطح النهر ) ، ولذلك فالرواية لها تسلسلها الزمني المعين ، وإن كان يمكن الخروج عن هذا النسق بحيلة فنية تتمثل في الفلاش باك ، أما القصة فتمثل إضاءة لحظة واحدة من الحياة ، ومن الفروق الآخري ما ذكره ( فرانك أوكونور ) في كتابه الشهير " الصوت المنفرد " بأن القصة القصيرة فن الوحدة والعزلة ( بمعني أن القصة القصيرة تتعامل مع الانكسار والهزيمة والإشفاق والكبت والضياع ولا تتعامل مع الانتصار ، فينكمش بطلها في قصة قصيرة ترضي به ويرضي بها ، أما لو كان البطل متوافقا اجتماعيا ونفسيا لكان أولي به أن يحتل صفحات رواية ) ، ويشير د . شكري عياد ( رحمه الله ) إلي أن فنان الرواية فيه شيئا من الباحث الاجتماعي أو المؤرخ أو العالم النفسي أو هؤلاء جميعا ، لذلك تغلب عليه طبيعة السرد النثري ، بعكس كاتب القصة القصيرة من حيث انه فنان شديد الفردية ويتلقى الحياة بحساسيته الخاصة لذلك يميل إلي تسجيل انطباعاته دون التفاصيل ، لذلك تغلب عليه قوة الشعر والإحساس بالدراما ، ومن الفروق الآخري أن القصة القصيرة تقوم علي الأداء الدقيق للأحداث لإحداث وحدة الانطباع لدي القارئ لذلك يجب التطابق التام بين الشكل والمضمون ، في حين تكون الرواية أشبه بالوعاء الذي يضم موادا مختلفة ، يذكر أوكونور ( أن الرواية لها شكلها الجوهري الذي نراه في الحياة من حيث التطور الزمني لشخصات الحدث ، في حين أن كاتب القصة القصيرة لا يعرف شيئا اسمه الشكل الجوهري لأنه لا يطمع في تصوير الحياة الإنسانية في مجموعها ، بل يختار فقط ما يتناول الحياة من احدي زواياها ) ، ويذكر القاموس الأمريكي والصادر عام 1968 م أن القصة القصيرة لها نمو محدد من ناحية الشكل ، وتتركز حول جانب وحيد من الجوانب العديدة في الرواية ، والشخصية فيها تتكشف ولا تتطور كما في الرواية ، أما الناقد محمد نبيل عاطف فيذكر : " القصة الآن – متعددة المذاهب ، كثيرة الدروب ، مختلفة المسالك ، قد تكون اللحظة فيها هي الحدث ، أو تكون الشخص أو الوسيلة ، أو النظرة العابرة ، أو اللفتة السريعة ، أو البوح أو غير ذلك ، وقد تكون القصة خاطرة مرئية أو واقعية أو غير واقعية ، أو تجربة شعورية ، أو تنفيسا وقتيا أو اعترافا ضمنيا ، وليس معني هذا ، أن القصة أسهل في كتابتها من الرواية ، ولكننا نؤكد بكل وضوح ، أن الرواية شيء ، والقصة القصيرة شيء آخر – ومن هنا فلابد للروائي أن يكون خصب الخيال ، قادرا علي خلق شخوصه ، متمكن من أعماقهم ، يستطيع أن يحركهم ذات اليمين وذات اليسار ، في فهم وإدراك ، والا ضاع منه الخيط الروائي ، وفقد أحداث روايته وجاءت شخوصه بلهاء " ، ويري آخرون أن للرواية دورها في تصوير حركة المجتمع بل وحركة الإنسان المعاصر عموما ، لذلك فهي تستغرق تقصيلات كثيرة وشخوص أكثر من إطار القصة القصيرة ، أما د . محمد عناني فيذكر خمس خصائص مشتركة بين القصة القصيرة والرواية وهي : كلاهما فن أدبي منثور ، وخيالية ( أي تختلف عن الحقائق التاريخية ) ، ويستخدم الكاتب فيهما السرد ( بدلا من التعبير عن مشاعر آنية كما يحدث في الشعر ، وبدلا من الحوار كما يحدث في المسرح ) ، وإن كان هذا لا يمنع من مزج الحوار في الأحداث القصصية ، لكن السرد هو الأغلب ، والسمة الثالثة أن كلاهما تخضع الأحداث فيها ( سواء الأفعال الإرادية البشرية أو الحوادث القدرية ) لنوع من المنطق أو التسلسل سواء كان تسلسلا زمنيا أم خاضعا لقانون العلة والمعلول وسواء كان السرد يتبع خطا متقدما في الزمن أم متعرجا يتردد بين الماضي والحاضر ، وهي تحاول إبراز المعني الكامن في هذه الأحداث البشرية ودلالتها ، كما يشتركا في سمة أنهما من الفنون الصعبة لنفس الأسباب التي تجعل فن القص يبدو سهلا ، أما السمات الفارقة فتتمثل في أن الرواية لا تخضع لتقاليد ثابتة أو ضوابط شكلية تسهل علي الكاتب مهمته فلا هي مثل الشعر يكتب نظما ، ولا هي مقسمة لمشاهد تخضع لأعراف سائدة في المسرح ، فالروائي له أن يسرد الأحداث دون التقيد بمكان أو زمان ودون أن تحده حدود الطول أو القصر ، كما أنه ليس مقيد اليدين إزاء الوصف والاستطراد وعدد الشخصيات ، فهو يستطيع أن يقدم أي عدد من الشخصيات أو يتعدي وحدة الانطباع فيخلق العديد من الانطباعات ، ورغم ذلك فإن في رأي بعض النقاد أن سمات القصة القصيرة والتي أشرنا إليها من تحقيق وحدة الانطباع والتركيز علي لحظة فارقة ، أو موقفا واحدا ، أو جانبا وحيدا للشخصية القصصية ، إنما هي ملامح النوع الأدبي الذي تأسس في القرن التاسع عشر ، أما القصة القصيرة الحديثة فقد تنوعت أشكالها لدرجة يصعب فيها رصد شكل ثابت لها ، فظهرت قصة الصورة والتي تستند علي الوصف والتحليل ، وتعدد وجهات النظر ، والنهايات المفتوحة ، وقصة الشخصية والتي لا تعتمد علي الموقف بل تعمد إلي الوصف النفسي الخالص بما يعرف بتيار الشعور ، أي التحليل والغوص في أعماق النفس الإنسانية أكثر من الاعتماد علي الحدث أو الوصف الخارجي والحركة خارج الذات ، والقصة الرمزية غير التقليدية لتتعدي قدرة الحدث وعناصر القص شكلها الواقعي إلي معان أخري تتعدد بتعدد القراء ودون تخطي حدود المعني الظاهر ، وهكذا يتضح أن الأمر يتجه أكثر إلي تقارب أنواع الأدب وهدم الحواجز الفاصلة بينها ، وإن كانت الرؤية الكلاسيكية تميل إلي تأصيل الفوارق التقليدية بين نوعي القص الرئيسيين ( القصة القصيرة والرواية ) ، ورغم قناعتي بحرية الأديب في التعبير عن فكرته بشكلها المناسب ، وأن تأسيس أشكال أدبية جديدة يكون من تأصيل الأدباء ثم يبلورها النقاد لاحقا ، وأن الأديب له أن يمزج سمات الأنواع الأدبية في دائرة عمله الأدبي ، لكن أميل إلي تأييد الفروق التقليدية تلك والاعتراف بها كسمات أصيلة تحدد النوع الأدبي بصفة عامة ، ولكن توجد منطقة متاحة ومشتركة بين النوعين ، كدائرتين تلاحما في منطقة تماس تتسع أو تضيق حسب الرؤية النقدية ، لكن يظل دائما للأسس الثابتة دورها الهام في البناء عليها والتطوير منها ليكون البناء الأدبي راسخا ، ونشير ( بعون الله تعالي ) لتلك المنطقة المشتركة ونقاط التماس في الفقرات الآتية
( يتبع )