مسلسل نور …والترف الخيالي
٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٨بقلم الدكتور أحمد زياد محبك
من حق المرء أن يتساءل عن سر هذا الإقبال ( المنقطع النظير ) على مسلسل نور؟ فالملايين تتابعه في الوطن العربي، وعبر أكثر من فضائية، وأحد أبطال المسلسل يزور بعض الأقطار العربية فيلقى من الترحيب الشعبي ما لم يتوقع، وفي أقطار عربية أخرى إحصائيات عن عدد كبير من المواليد منحهم أهلهم أسماء الأبطال في المسلسل، وهناك فرص لمن يود إعادة رؤيته كاملاً من بدايته، بل هناك من السائحين العرب من جعل مقصده تركيا ليزور المواقع التي صور فيها المسلسل، فما سر هذا الإقبال؟
مما لاشك فيه أن هناك أسباباً كثيرة وراء هذا الإقبال، منها توقيت العرض، والإضاءة الناجحة، على الرغم من أن كثيراً من المشاهد كانت مصورة في الخارج وفي وضح النهار، والبراعة في اختيار زاوية التصوير، ولا سيما في التركيز على ملامح الوجوه وتعبيراتها، والرشاقة في الحوار المنقول إلى العامية الشامية، وقدرته على الوصول إلى الجمهور، وما في هذا الحوار من جمل وعبارات وتراكيب وكنايات شعبية شامية سهلة الفهم أو ذات رصيد لدى الشعب العربي، ولعلها غير موجودة في الحوار بالتركية، والحركة الرشيقة للممثلين والممثلات وما يمتاز به معظمهم من جمال ووسامة ورشاقة، وقوام فارع، وأناقة وبهاء، ومما لاشك في أن للأزياء دورها أيضاً، فهي متنوعة تنوعاً كبيراً، في الألوان والأشكال وكأن المسلسل فرصة لعرض الأزياء، وأزياء السيدات خاصة، وأكثرها يكشف عن النحور والصدور، فيزيد المسلسل قدرة على الجذب والإغراء، بصورة تبدو عفوية جداً وبريئة جداً وغير مقصودة، وإن كانت في الحقيقة مدروسة، وهي بقدر وحساب، وإلى الحد المسموح به حالياً، ويضاف إلى ذلك فخامة القصور والمباني، وروعة الفرش والأثاث، وما تمارسه هذه الأمور على المتلقي من جذب وإدهاش، وما تشبع لديه الميل إلى العيش في مثل هذه الأجواء، وتنسيه ما يعيش فيه من أجواء مختلفة، ولذلك يكون الإقبال على المسلسل لدى الطبقات الفقيرة والمحرومة أكثر مما يكون عند الطبقة الغنية، والطبقات الفقيرة أكثر، ولذلك كان الإقبال عليه أشد، وهذه جميعاً أمور يعرفها المنتج والمخرج، ويعنيان بها، ويدرسانها حق الدراسة، فالمناخ الذي تدور فيه الحوادث هو مناخ الترف والرفاهية، حتى المناخ الذي يعيش فيه الخادم وزوجته مناخ مترف وأنيق، والشخصيات في أناقتها ووسامتها لا تحمل أي ملمح شرقي أو تركي، سوى الجدة العجوز، والأهم من ذلك أن كل المشكلات تحل ببساطة وسهولة ومن غير شقاء ولا تعب، فالمال يحل كل المشكلات، والطبقة الغنية في المسلسل لا مشكلات عندها في الحقيقة، ولا حوادث مهمة، حتى مقتل عابدين يمر ببساطة، وينسى، وتدخل نور السجن، ولكن سرعان ما تبرأ، وكأن السجن كان مجرد نزهة، وكل ما في المسلسل إنما هو مجرد خلافات أسرية بسيطة تحدث كل ساعة وتحل بسرعة، ومن غير عناء، ومن الجميل بالنسبة للمتابع أن كثيراً من المشكلات تحل في الحلقة نفسها ولا تقطع الحلقة عند مشكلة شديدة التشويق أو مبالغ فيها، وعلى الرغم من ذلك يتابع المسلسل من يتابعه، ويمنحه من وقته ساعة وبعض الساعة.
إن المسلسل يريح المتابع، ولا يتعب ذهنه، ولا يدعوه إلى أن يكد فكره، ولا يشغله بما هو جاد أو خطير، فالمسلسل هو مسلسل عائلي، كل همومه هي هموم العائلة الغنية المترفة القادرة على حل مشكلاتها البسيطة، وليس مسلسلاً اجتماعياً أو تاريخياً أو سياسياً، فهو لا يطرح قضية، ولا يثير مشكلة، ولا يتعلق بتاريخ ولا وطن، ومع أنه يصور في تركية، فهو لا يمثل المجتمع التركي، وكل ما يؤكد أن المسلسل تركي هو بعض اللقطات المكررة لمشهد أو مشهدين من اسطنبول، ولا سيما جسرها الواصل بين آسيا وأوربة، وهو يصور من بعيد، ولذلك فالمسلسل يعزل المتابع عن العالم، ويعطيه جرعة من التخدير، وينسيه كل ما يدور حوله في العالم من أحداث الساعة، ولا يربطه بماض، ولا يطلعه على حاضر، ولا ينبهه على مستقبل، فالمسلسل لا يقول شيئاً محدداً، ولا يعبر عن قضية، ولا يعالج مشكلة، فهو يريح المتلقي من جهة، ولكنه يجعل تفكيره بسيطاً وساذجاً إلى حد بعيد، ويغرقه في الوهم والخيال، بل يغرقه في الترف الخيالي.
ومن حق المرء أن يتساءل: هل سر هذا الإقبال هو قدرة المسلسل على الجذب والتأثير؟ أم هل سر المسلسل هو الفراغ الذي يعيش فيه المواطن العربي؟ أم هل هو الإرهاق الذي يعيش فيه والضغط النفسي والمادي مما يجعله يهرب إلى مثل هذا المسلسل؟ ويمنحه ساعة أو أكثر كل يوم من وقته، بدلاً من أن يقرأ جريدة أو يطالع مجلة؟
قد يرى شخص ما أن المسلسل يعبر عن روح الشرق، حيث تعيش الأسرة الكبيرة، يرعاها الأب أو الجد، ولكن مثل هذه الأسرة الشرقية انتهت، ولم يعد لها وجود في الوطن العربي، ومشكلات الأسرة الشرقية الكبيرة في رعاية الأب أو الجد ليست هي المشكلات التي يعرضها المسلسل، إن حياة الأسرة التي يعرضها المسلسل هي حياة الأسرة الغنية المترفة، التي لا مشكلات حقيقية عندها، وهي حياة الأسرة الغنية المترفة غير المرتبطة بمجتمعها، وغير الواعية لقضاياه وهمومه.
وقد يرى شخص آخر أن المسلسل دليل على تطور العلاقات وتحسنها بين تركيا ومعظم الأقطار العربية، وأن نجاحه جزء من هذا التطور الإيجابي، وهو شكل من أشكال التواصل الفني مع الأصدقاء الجيران، وهو خير من استقدام أفلام من قارات أخرى وأقطار بعيدة، أو هو على الأقل خير من مسلسل كاسندرا الذي ملأ الخيال وشغل الناس قبل عقدين من الزمن، وهذا أمر حقيقي ولا بد من الإقرار به، ولكن يبقى ثمة سؤال: أليس في الإنتاج التلفزيوني التركي ما هو أكثر تعبيراً عن الشعب التركي، والبيئة التركية، وأكثر إمتاعاً للمتلقي العربي، وأقدر على ترسيخ العلاقة بين الشعبين، وتحقيق التواصل والتعارف بينهما؟ إن مسلسل نور لا يعرف الشعب العربي في الحقيقة على الشعب التركي، لا في ماضيه ولا في حاضره، ولا يساعد على تطوير التواصل الفني والتاريخي بين الشعبين، لأن المسلسل لا يحمل من الهوية التركية شيئاً ولا يعبر عنها.
وقد يقول شخص ثالث: إن من حق المواطن أن يرتاح من الهموم والأعباء ومشكلات الوطن والأمة والعالم، ليتابع مسلسلاً لا هموم فيه ولا مشكلات، ويسلي نفسه بعرض بريء خال من الارتباط بأي قضية أو مشكلة، ومن حقه أيضاً أن يستمتع بعرض فني ناجح، على مستوى الشخصيات والتمثيل والإضاءة والديكور والحوار، أي أن يعيش مع مسلسل كل ما فيه ناجح، ولكن يبقى الجواب أليس لساعة من العمر كل يوم قيمة؟ وعلى مئة وما يزيد من الحلقات، ألا يستطيع المرء أن يعرف من خلالها تركيا كلها في ماضيها وحاضرها وعادات شعبها وزراعتها وصناعتها ومشكلاتها فيما لو كان المسلسل معبراً عن الحياة التركية الحقيقية لا حياة الترف الخيالي المتوهم؟؟ ولماذا نضع المتلقي في عالم من الخيال ونعطل فيه طاقته ونشل قدرته على المحاكمة والتفكير والبحث والسؤال؟؟؟
كل ما نتمناه أن يستفيد المنتج العربي والمخرج العربي من مسلسل نور، ومما لاشك فيه أن الاستفادة الحق لا تكون بتقليده، وإنما بصنع مسلسل عربي يختلف عنه، ويبقى لنا الأمل في المسلسل العربي، أو بمسلسل آخر من تركيا نفسها، أو من أي بلد آخر في العالم، ولكن بشكل مختلف.